الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَحْيًا} قال مجاهد: نَفْثٌ يُنْفَث في قلبه فيكون إلهامًا؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القُدُس نَفَث في رُوعِي إنّ نَفْسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب خذوا ما حلّ ودَعُوا ما حَرُم» {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} كما كلم موسى.{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} كإرساله جبريل عليه السلام.وقيل: {إِلاَّ وَحْيًا} رؤيا يراها في منامه؛ قاله محمد بن زهير.{أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ} كما كلم موسى.{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} قال زهير: هو جبريل عليه السلام.{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقًا ويرونه عيانًا.وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.قال ابن عباس: نزل جبريل عليه السلام على كل نبيّ فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكرياء عليهم السلام.فأما غيرهم فكان وحيًا إلهامًا في المنام.وقيل: {إِلاَّ وَحْيًا} بإرسال جبريل {أَوْ مِنْ وَرَاء حِجَابٍ} كما كلم موسى.{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إلى الناس كافة.وقرأ الزهري وشيبة ونافع {أَوْ يرسلُ رسولًا فيوحِي} برفع الفعلين.الباقون بنصبهما.فالرفع على الاستئناف؛ أي وهو يرسل.وقيل: {يرسل} بالرفع في موضع الحال؛ والتقدير إلا موحيًا أو مرسلًا.ومن نصب عطفوه على محل الوحي؛ لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل.ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة.ويكون في موضع الحال؛ التقدير أو بأن يرسل رسولًا.ولا يجوز أن يعطف {أَوْ يُرْسِلَ} بالنصب على {أَنْ يُكَلِّمَهُ} لفساد المعنى؛ لأنه يصير: ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولًا، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم.الثانية احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلّم رجلًا فأرسل إليه رسولًا أنه حانث؛ لأن المرسل قد سُمّي فيها مكلّمًا للمرسَل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب.قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانًا فكتب إليه كتابًا أو أرسل إليه رسولًا؛ فقال الثَّوْري: الرسول ليس بكلام.وقال الشافعي: لا يبين أن يحنَث.وقال النَّخَعي: والحكم في الكتاب يحنث.وقال مالك: يحنث في الكتاب والرسول.وقال مَرَّة: الرسول أسهل من الكتاب.وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والإشارة.وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب.قال ابن المنذر: لا يحنث في الكتاب والرسول.قلت: وهو قول مالك.قال أبو عمر: ومن حلف ألاّ يكلّم رجلًا فسلّم عليه عامدًا أو ساهيًا، أو سلّم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك.وإن أرسل إليه رسولًا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث.قلت: يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة؛ للآية، وهو قول مالك وابن الماجشُون.وقد مضى في أول (سورة مريم) هذا المعنى عن علمائنا مستوفًى، والحمد لله. اهـ.
فإنه أراد قذف في قلبي.والثاني: إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه.والثالث: إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام،، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي ملكًا {فَيُوحِىَ} ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري {بِإِذْنِهِ} أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه: {مَا يَشَاء} أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبني المعتزل على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} معناه إلا كلامًا خفيًا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روى في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى: {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم: إن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى.ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيًا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك: ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلًا فيهم على نحو {ملائكته وَجِبْرِيلُ} [البقرة: 98] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلا المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحيًا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه: {أَوْ يُرْسِلَ} وهو عطف على قوله تعالى: {إِلاَّ وَحْيًا} مع كونه خلاف الظاهر.وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلًا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونًا وجوديًا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقًا ونقلًا وعقلًا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليمًا، وأما الثالث: فلما كان تكليمًا مجازيًا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى.وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرًا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيًا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيًا مطلقًا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده: {فيوحي} بأنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة، أخرج البخاري، ومسلم، والترمذي عنها أنها قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيهيا التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كلمه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر.وابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادًا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن (صاحب الكشف) قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة: فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلًا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيًا إذا لوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليمًا في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام (صاحب الكشف) منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي (البحر) قيل قالت قريش: ألا تلكم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيًّا صادقًا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية» وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضًا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله (صاحب الكشف) قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني: الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى:
|